حكم إلقاء السلام على المصلي
بقلم : أبي البراء محمد ماهر الخطيب567
قد اشتد الجدل، واحتد النقاش، واحتار العامّة، في مسألة إلقاء السلام على المصلي، هل يشرع أم يمنع؟ وأرجح كلام في هذا المقام هو استحباب إلقاء السلام على المصلي: فعن جابر، إنه قال: أنّ رسول الله بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يسير، - قال قتيبة: يصلي – فسلمت عليه، فأشار إليّ، فلمّا فرغ دعاني، فقال: "إنك سلمت عليّ آنفا وأنا أصلي " ، وهو موجّه حينئذ قبل المشرق. (1)
وعنه أنّه قال: أرسلني نبي الله إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فكلمته، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته، فقال لي بيده هكذا، وأنا أسمعه يقرأ ويومئ برأسه فلما فرغ، قال: "ما فعلت في الذي أرسلتك؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أنّي كنت أصلي" .(2)
وعن صهيب أنه قال: مررت برسول الله وهو يصلي فسلمت عليه، فرد أشارة قال: ولا أعلمه إلاّ قال إشارة بإصبعه .(3)
وعن عبدالله بن عمر قال: خرج رسول الله إلى قُباء، يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار، فسلّموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا – وبسط كفه – وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه في أسفل، وجعل ظهره إلى فوق.(4)
وعن نافع أن عبدالله بن عمر مرّ على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلاما فرجع إليه عبدالله بن عمر فقال له:إذا سُلِّم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر بيده. (5)
قال ابن حجر: "فقد وردت أحاديث جيدة أنه ردَّ السلام إشارة وهو يصلي، منها حديث أبي سعيد: " أنَّ رجلاً سَلَّم على النبي وهو يصلي، فرد عليه أشارة " ومن حديث ابن مسعود نحوه".
وقال: "والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً، وإلاَّ فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام ، كالمصلى...". (6)
قال الشوكاني: (فائدة): ورد في كيفية الإشارة لرد السلام في الصلاة حديث ابن عمر عن صهيب ن قال: لا اعلمه إلا انه أشار بإصبعه، وحديث بلال قال: كان يشير بيده، ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار مرة بإصبعه، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الأصبع حملا للمطلق على المقيد، وفي حديث ابن عمر عند ابي داود: " إنه سأل بلالاً: كيف رأيت رسول يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ فقال: يقوم هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل ، وجعل ظهره إلى فوق "، ففيه الإشارة بجميع الكف، وفي حديث ابن مسعود عند البيهقي بلفظ: "فأومأ برأسه" وفي رواية له : "فقال برأسه" يعني: الرد، ويجمع بين الروايات بأنه فعل هذا مرة وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزا".(7)
قال الصنعاني عن حديث عمر: " والحديث دليل انه إذا سَلَّم أحد على المصلي رد عليه السلام بالإشارة دون النطق".(
سئل أحمد عن الرجل يدخل على قوم وهم يصلون، أيُسَلِّم عليهم؟ قال: "نعم" وروى ابن المنذر عن أحمد إنه سَلَّم على مصلٍ. (9)
قال النووي: "هذه الأحاديث فيها فوائد، منها: تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لمصلحتها أم لا، وتحريم ردّ السلام فيها باللفظ وأنه لا تضر الإشارة، بل يستحب رد السلام بالإشارة ".(10)
قال ابن القيم: " ... ولم يكن النبي يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلاّ في الصلاة، فإنه كان يرد على من سلّم عليه إشارة، ثبت ذلك عنه في عدة أحاديث، ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشي باطل لا يصح عنه...". (11)
لكن المانعين من رد السلام إشارة في الصلاة استدلوا بحديث ابن مسعود في "الصحيحين" وغيرهما، والذي فيه: " فلم يرد علينا " قال الشوكاني: "...لكنه ينبغي أن يحمل الردّ النفي هنا على الرد بالكلام لا الرد بالإشارة ، لأن ابن مسعود نفسه قد روى عن رسول الله إنه ردّ عليه بالإشارة، ولو لم ترد عنه هذه الرواية لكان الواجب هو ذلك جمعاً بين الأحاديث".(12)
وهذا الذي ذهب إليه الشوكاني هو الحق
فعن عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه، عن جده : إنه كان يسلم على رسول الله وهو يصلي، فيرد السلام، ثم إنه سلّم عليه وهو يصلي فلم يرد عليه، فظن عبدالله أنّ ذلك من موجدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال: يا رسول الله : كنت اسلم عليك وأنت تصلي فترد علي، فقال: "لا، ولكنا نهينا عن الكلام في الصلاة، إلا القرآن والذكر".(13)
وعن أبي سعيد الخدري، أنّ رجلا سلم على رسول الله وهو يصلي فرد النبي بإشارة، فلما سلم قال له النبي: "إنّا كنا نرد السلام في صلاتنا فنهينا عن ذلك".(14)
قال الألباني: "أن الرجل الذي سلَّم على النبي هو عبدالله بن مسعود كما روي أبو هريرة عنه قال: "مررت برسول الله وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي"، وكان ذلك عند قدومه من هجرته - رضي الله عنه – من الحبشة، صح ذلك عنه من غير ما طريق ،وتقدم تخريجه في المجلد الخامس من السلسلة "الصحيحة" (رقم: ) وفي "الروض" أيضا (605) وفي الحديث دلالة صريحة على أن رد السلام من المصلي لفظاً كان مشروعاً في أول الإسلام في مكة ثم نسخ إلى ردِّه بالإشارة في المدينة وإذا كان ذلك كذلك، ففيه استحباب إلقاء السلام على المصلي، لإقراره ابن مسعود على إلقاءه كما أقرَّ على ذلك غيره ممن كانوا يسلمون عليه وهو يصلي، وعلى ذلك فعلى أنصار السنة التمسك بها، والتلطف في تبليغها وتطبيقها، فإن الناس أعداء لما جهلوا، ولاسيما أهل الأهواء والبدع منهم".(15)
واستدلوا أيضا بما رواه أبو داود وغيره: " لا غرار في صلاة ولا تسليم".
الغرار في الصلاة: النقص في هيأتها وأركانها، وأما التسليم المنهي عنه هنا فيحمل على الرد باللفظ لا بالإشارة ، جمعاً بين الأدلة(16).
واستدلوا أيضا بما رواه أبو داود: " من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها " يعني: الصلاة، فهذا حديث منكر. (17)
قال الشوكاني: "وعلى فرض صحته ينبغي أن تحمل الإشارة المذكورة في الحديث على الإشارة لغير ردّ السلام والحاجة، جمعاً بين الأدلة" (18) ، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1. مسلم (540) بعد (36) .
2. مسلم (540) بعد (37) ، وغيره .
3. أبو داود (925) وغيره .
4. أبو داود (927) .
5. " الموطأ " في ( العمل في جامع الصلاة ) .
6. " الفتح " (11/14،19) .
7. " النيل " (2/378) .
8. " سبل السلام " (1/264) .
9. " المغني والشرح الكبير" (1/712) .
10. " مسلم بشرح النووي " (5/27) .
11. " زاد المعاد " تحقيق الأرناؤطي (2/419) ، وراجع – لزاماً – المرجع نفسه (1/267) .
12. " النيل " (2/377) .
13. الطبراني في " الكبير " ( 10/10129) , وانظر " السلسلة الصحيحة" (رقم:2380) .
14. " الطحاوي في " شرح المعاني" ( 1/454) .
15. " الصحيحة " ( 6/998-999) بتصرف .
16. انظر لزاماً " نيل الأوطار (2/377) ، " سلسلة الضعيفة " (3/226) .
17. راجع " زاد المعاد " تحقيق الأرناؤطي ، و" الضعيفة "(1104) ، و" ضعيف سنن أبي داود " (200) .
18. " النيل " (2/378) .